31 يوليو 2010

قراءة في رواية إيموز ... الرحلة

إيموز رواية مهمة تمس فئة كبيرة من الشباب الباحثين عن ذاتهم والمنشغلين بحقيقة وجودهم والحالمين بفرصة آدمية للحياة السوية. تقرأها فتجد نفسك أمام لغة جديدة وثقافة واسعة لكاتب مميز بين كُتاب جيله حقيقةً.

بطل الرواية إنسان عادي -ملول بطبيعة الواقع- قد يكون أنا وقد يكون أنت، يسير ضد التيار ويأكل من شجرة المعرفة؛ فيجد في طريقه كل أصناف البشر، يجرب أن يعيش حياة كل واحد فيهم، إلى أن يعود مرَّة أخرى إلى حياته المعتادة المقسومة له منذ البداية.

يؤخذ على الكاتب في الرواية الإخلال بالدقة على حساب الوضوح. كما أن الرواية بها كم زائد من المط والتطويل في سرد شخصيات البطل والبطلة على حساب شخصيات أخرى مهمة في الرواية. بالإضافة إلى زيادة في جرعة السرد المقالي لتوصيل بعض الأفكار، قد يكون ذلك استسهالاً، وقد يكون لرغبة متأججة في نفس الكاتب لتوصيل كل الأفكار التي كانت تجول في خاطرهُ وضمها في نفس الرواية.

لكن في رأيي أن الرواية من أروع روايات -جيل الشباب- التي قُدِمَت في الفترة الأخيرة. كما أعتقد في أنها ستكتب اسم "إسلام مصباح" ضمن قائمة الكُتاب المهمين في الوسط الأدبي.

12 مايو 2010

اسمها أمل

(1)
                                                                        
اسمها أمل. خرجت من دار القضاء العالي حيث تعمل موظفة ربما أو شيء كهذا لتعول أسرتها: أب، أم، أخان، وأخت صغيرة تبكي. انتقلت عدة مرَّات بين الرصيف هذا والرصيف الآخر من «شارع سعد زغلول» بحثًا عن حذاء غالي وجميل، لكنها وجدت أن محلات بيع الأحذية في ذلك الشارع محدودة ومعظمها يبيع الأحذية الرخيصة، وهي تتمنى حذاء غالي وجميل، تتمناه منذ ستة أشهر أو يزيد، فقد كانت توفر له جزء كبير من راتبها كل شهر. فكرت في أن تذهب إلى «شارع صفية زغلول» ربما تجد هناك الحذاء الذي تتمناه، بالتأكيد ستجده هناك فهي تعرف أن هناك محلات ثمينة تبيع الأحذية الأصلية غالية الثمن الجميلة، لكن حرارة الشمس كانت توحي لها بأن تعود إلى «موقف الأوتوبيس» حتى ترجع إلى بيتها وتعاود البحث عن الحذاء في يوم الاجازة، إلا أنها قالت لنفسها:
-         سأذهب لأشتري الحذاء وبعدها آخذ تاكسي حتى البيت، فالحرارة قاتلة واليوم نهاية الشهر وجل ما أخشاة أن يسرقني لص في الأوتوبيس.

إنها فكرة مرعبة حقًا، كيف ستقضي الشهر هِيَ وأسرتها إذا ضاع راتبها الذي قبضته منذ ساعة، أرهقتها الفكرة غير أنها كانت تميل أصلا لشراء الحذاء اليوم قبل غدًا، فقالت هامسة لنفسها:
-         لا، لا، سأذهب لأشتري الحذاء وبعدها آخذ تاكسي حتى البيت.

ذهب إلى «شارع صفية زغلول» وفي أوله وجدت محلاً كبيرًا فخمًا له واجهة زجاجية رهيبة، وقفت أمامها تتأمل الأحذية حتى سقط طرفها على ذلك الحذاء الصيفي الجميل، حذاء نصف كعب أسود وبه نقوش حمراء، استحوذ الحذاء على اهتمامها، فراحت تتأمل دقائقة وتُمعن النظر في صنعته، وظلت تدور حولة بنظرها وهِيَ تحاول أن تقرأ نوع الماركة المكتوبة عليه. دخلت المحل وطلب مقاس 37 من ذلك الحذاء، أحضرته لها البائعة وساعدتها في لبسه ولف أشرطته على مقدمة ساقيها، وقاتلت لها:
-         كم هو جميل الحذاء في قدميك.

قامت أمل وَمَشِيَتْ بضع خطوات على أرضية المحل الباركية، ونظرت لقدميها في المرآة العملاقة الموضوعة على مستوى الأرضيه، تأكدت من جمال الحذاء في قدميها، وطارت، إلى الخزينة تدفع ثمن الحذاء. شكرت البائعة ونفحتها إكرامية مناسبة. استلمت الحذاء داخل كيس قَيِّمٌ مكتوب عليه اسم المحل بخط أنيق. خرجت ولم تشعر بحرارة الجو القاسي بعد أن كانت في جو المحل اَلْمُكَيَّفْ، كانت تمشي مبتهجة وكأنها تقول للعالم:
-         انظروا، لقد أشتريت حذاءًا غاليًا وجميلاً من ذلك المحل الراقي في أول الشارع.

وانحدرت إلى طريق الكورنيش حتى تستقل إحدى سيارات التاكسي. كانت تشير للسيارات بثقة، وكانت تبدو جميلة، مستمتعة بنظرات المراهقين والرجال لها، سمعت فتًا مراهقًا يهمس لصديقة:
-         أنظر، إن لها مؤخرة رائعة تحملها ساقان جميلتان ... آآه.

كان قلبها يَرِفُّ فكادت تطير. حتى رأت الأوتوبيس؛ فتركت معجبيها، ونسيت أمر التاكسي، ولم تهتم بأمر حرارة الجو، أو تخشى لص الأوتوبيس، لم تشعر بنفسها إلا وهِيَ تدفع ثمن التذكرة، وتبحث بناظريها عن مكان لقدميها بجوار أحد النوافذ. انتبهت لذلك الصوت الهادئ المهزوز:
-         تعالي اجلسي هنا يا آنسة.

ابتسمت ابتسامة واثقة، وشكرت الشاب بالفرنسية، رغم أنها لم تكن معتادة على الكلام بأي ألفاظ غير عربية. جلست وأسندت رأسها على النافذة، تركت الزحام والضجيج والدخان وراحت تفكر؛ فكرت في ذلك الشاب الخجول الذي كان ينتظرها كل يوم على محطة الأوتوبيس مبكرًا وهي ذاهبة إلى العمل ينظر إليها حتى تركب دون أن يتكلم معها، وفكرت في جارها الذي تحبه وتشعر بأنه يميل لها أيضًا رغم أنه يصغرها بثلاث سنوات على الأقل، وفكرت في الزواج من رجل ثري يُقَدِّرُ جمالها ويكفل أسرتها ويرحمها من الشقاء في العمل، ورأت نفسها ترتدي فستان زفاف، وطرحة بيضاء، وحذاء راقي له كعب عالي، وتمسك بيد عريسها وقد ملأت الموسيقى المكان، ويفتح لها عريسها باب السيارة الحمراء لتركب في المقعد الخلفي وتسير سيارتها في مقدمة صف طويل من السيارات وقد شق السماء أصوات الزغاريد، وكلاكسات السيارات، وأصوت طلقات نارية مدوية، وفرقعات، وانفجار، ولا شيء.

(2)

فتحت أمل عينيها على أربع عيون دامعة حزينة وعين صغيرة تبكي بجوار سريرها، التفتت حولها فرأت عائلات أخرى تلتف حول سراير أُخَرُ، وجوم، همهمات، كآبة، والحزن هو سيد المكان:
-         أين نحن، ولماذا تبكون ؟
-         نحن في المستشفى يا ابنتي.
-         ولماذا نحن في المستشفى، هل حدث لي شيء ؟
-         لا تقلقي يا حبيبتي، فالضحية الوحيدة في الحادث هو السواق، قَدْ فَقَدَ حياته.
-    أي حادث ... لقد تذكرت. كانت هناك زغاريد، وكلاكسات سيارات، وأصوت طلقات نارية مدوية، وفرقعات، وانفجار، ثم لا شيء ... أين حذائي، كان معي حذاء جميل أسود وبه نقوش حمراء، أين هو، هل وجدتموه ؟

بدا الجزع على الجميع، وراحت الأم تنتحب، وراحت هِيَ تنظر لهم مندهشة:
-         كل هذا من أجل حذاء، سأشتري غيره بعدما أخرج من المستشفى !

وبدلاً من أن تراهم يهدأون، وجدت كآبتهم تزداد، وينفجرون في البكاء، ونحيب الأم يعلو بشكل كئيب بشع، فأغتاظت أمل، وراحت تسأل مرَّة أخرى:
-         كل هذا من أجل حذاء ؟!
-         لا يا ابنتي، إننا لا نبكي من أجل الحذاء، بل نبكي لأنك لم تعودي في حاجة إلى لبس حذاء.

تجمدت أمل، ومدت يدها تتحسس موقع رجليها. صرخت، وزلزلت القلوب، ولا شيء.

24 أبريل 2010

المشهد



كنتَ تحبُّ المطرَ، وتُحِبُّ الخريفَ. وتُحِبُّ الجلوسَ في الحديقة نهارًا على الكرسي الخزفي وفي المقهى ليلاً على الكرسي الخشبي، وتعودُ إلى بيتك وحذاؤك مُبتلٌّ من ماء المطر المتكوَّم على أرصفة الشوارع المظلمة إلا من ضوء القمر والضوء الخفيف المنبعث من بعض النوافذ.

وكنتَ تحبُّ أن تشعلَ الحطبَ في المدفئة، وتذهب إلى النافذة الجافة، ويظل وجهك الشاحب المزروع بالشَّعر الأسود ملتصقًا بزجاجها أطول فترة ممكنة، حتى يتعكَّر صفوها، فتتذكَّر إلَهَك، وتتذكَّر حبيبتك الصغيرة، وتراها وهي تَمُرُّ أمامَكَ، تسير متمهلة على الرصيف المقابل، وتضم حقيبتها مُنَكَّسَةً رأسها كأنها تبكي على طفلتها الميتة بين ذراعيها، أو كأنها تقول للعالم أجمع:
-        انظروا كم أنا حزينة، كم أنا حزينة انظروا !

وتذهب أنت لتتابع المشهدَ ...
كان المشهدُ مهيبًا عندما سقط البطل على الأرض بعد أن علا زئيرُه باسم حبيبته، وكنتَ أنت تتابعُ المشهدَ بنفس اللهفة التي تابعته بها في المرَّة الأولى.

وكنتَ تعودُ إلى النافذة الجافة، ويظلُّ وجهك الشاحب المزروع بالشَّعر الأسود والأبيض ملتصقًا بزجاجها أطول فترة ممكنة، حتى يتعكَّر صفوها، فتتذكَّر إلَهَكَ، وتتذكَّر حبيبتك الصغيرة، وتراها وهي تَعْـبُرُ الطريق، وحدها، أو مع غيرك ربما، فتُنادي عليها من الدور الرابع، وتصرخ:
-        عودي يا حبيبتي الصغيرة، يا حبيبتي الصغيرة عودي.

حتى تتأمَّلَ آخر ذرَّة منها في الزحام، لكنك لا تُصَدَّقُ أنها ذهبت إلى الأبد، لا لشيء إلا لأنك كنتَ تتمنَّى أن تضع لها إخلاصك في حقيبتها، لكنك أدركت -بعدَ فوات الأوان- أن صراخك من الدور الرابع ضَرْبٌ من الجنون !

فكُنتَ تعود إلى المدفئة، وتكتب رسالة إلى إلَهِكَ، ورسالة إلى حبيبتك الصغيرة، وتضع بدل الطابع ورقة من روحك المشروخة، وتلصق الرسالة بماء الندم.

ويأتي الصباح، وتشرق الشمس قليلا قليلا، فتشعر بالدفء قليلا قليلا، وتهوي على الكرسي بجوار المدفئة، وتنام.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة: كريم آدم
نشرت في: المجموعة القصصية، رجل العواطف يجلس على المقهى ويدخن الشيشة. ديسمبر 2010