26 مايو 2009

العشاء الأخير

نزلت المائدة، وكان التلاميذ يعلمون أنه آخر عشاء لهم بصحبة مُخَلِّصَهُمُ (يسوع المسيح) نبي (الناصرة) الذي أراد أن يُخَلِّصَهُمُ من جشع يهود، ومن الظلام الذي خيَّم على القلوب والعقول جراء الوثنية.

جلس (السيد المسيح) عند رأس المائدة، بينما كان التلاميذ الإثنا عشر يتنافسون على مقاعد الشرف القريبة منه، فقام من مَقْعَدَهُ وجاء بحوض به ماء وغسل أرجل التلاميذ وقال:
-         لقد حاولتم التنافس على مقعد الشرف، والأن أضرب لكم المثل الذي يجب أن تحتذوه: تذكروا أن الخادم ليس أعظم من سيده.

فهم التلاميذ قصد معلمهم وراحوا يتناولون العشاء فى صمت، فقطع السيد المسيح صمتهم وقال:
-         إن أحدكم سوف يسلِّمني.

وقعت الكلمات على التلاميذ كوابل، فزادت من صمتهم لحظات يتناظرون فيها إلى بعضهم، ثم تهامس كل منهم في رجفةٍ:
-         هل هو أنا يا مُعَلِّمُ ؟

فقال السيد المسيح:
-         إن الذي يضع يده في الصفحة معي هو الذي سيسلمنى، ولقد كان خيرًا للذى يسلمنى أن لو كان لم يولد.

أكلوا فى صمت، ولم ينتبه أحدٌ إلى أن (يهوذا الأسخريوطي) كان هو الذي وضع يده مع االسَّيد في الصفحة.

* * *

كان الملأ من يهود قد اجتمعوا وعقدوا مجلس (السنهدرين؛ يعني : المجلس التشريعي الأعلى لليهود) الذي دعا إليه الحاخام الأكبر (قيافا) ليروا كيف يستطيعون ايقاف (يسوع) - الذي يُدْعَىَ المسيح - عن الوعظ وكيف يمنعوا عدد أتباعه من الأزدياد. فقد اغتاظوا من جرأته لما جاء الهيكل وطرد منه التجار والصيارفة من قبل، وما ميَّز غيظهم تلك المرَّة؛ عندما جاء إلى أورشليم ولم يكن وحده، كان حوله أتباع كثيرون ينشدون ويرتلون في الشوارع وقد انتابتهم نوبة قوية من الغضب الشديد فراحو يقلبون مناضد الصيارفة والتجار ويبعثرون نقودهم على الأرض ويخرجونهم من فناء الهيكل بضرب العصى.

خاف الملأ من أفعال أتباع المسيح، وأن تدفعهم عواطفهم الثائرة ونزعتهم الوطنية إلى الثورة على السلطة الرومانية، فتكون العاقبة هي القضاء على ما يتمتع به يهود وزعمائهم من حُكْمٌ ذاتي وحرية في جمع المال بإسم الدين. فوافق المجلس بأغلبيته على رأى (قيافا) الذي قال:
-         خير لنا أن يموت إنسان واحد من الشعب ولا تهلك كل أمة يهود.

* * *

انتهى التلاميذ من العشاء، كما انتهى المجلس من قراره. وها هو (السيد المسيح) بصحبة احدا عشر تلميذًا، خرجوا من المدينة إلى حديقة (جشماني) التي اعتاد (السيد المسيح) الخروج إليها للصلاة والتعبد.

* * *

وبينما رؤساء الكهنة يتشاورون فى الطريقة التي بها يقبضون على (السيد المسيح) دون إثارة للشغب، إذ دخل عليهم (يهوذا) يساومهم:
-         ماذا تعطونني وأنا أسلمه إليكم ؟

جلست الخيانة على مائدة الكفر وبدأت المساومات.

* * *

شق السكون في الحديقة بعدما انتصف الليل وصول (يهوذا) يتقدم جماعة من الضباط والجنود حاملين مشاعلهم وعصيهم، فتقدم (السيد المسيح) إليهم يسألهم:
-         عمن تبحثون ؟

قالوا:
-         نبحث عمن يُدْعَىَ (يسوع) الناصري.

فقال على الفور :
-         أنا هو.

لم يكن (السيد المسيح) يكشف عن نفسه إلا وقد هرب التلاميذ وتخلوا عن مُعَلِمَهُمُ. ولكن أين (يسوع) ؟ أهرب مع تلاميذه ؟

* * *

دخل (يهوذا) بعنف على التلاميذ في البيت الذي كانوا قد اجتمعوا فيه بعد الهرب وأخذ يفتش ويقول :
-         أين اَلْمُعَلِمُ ؟

قالوا له:
-         أنت اَلْمُعَلِمُ، أنسيتنا أم أنك تُنْكِرُنَاَ ؟

* * *

ألقى الضباط القبض على (يهوذا) في رداء (السيد المسيح) وقيدوه وقادوه إلى بيت كبير كهنة يهود، وبعد ليلة طويلة من الإتهامات والإهانات جيئ به إلى قاعة المحاكمة أمام (بيلاطس اَلْبُنْطِيِ) حاكم أورشليم الروماني، وحوكم محاكمة لم يشهدها التاريخ من قبل، لكن، ربما تكررت كثيرًا بعدها.

وجد (يهوذا) فى رداء (السيد المسيح) نفسه متهمًا بالأتي :
1.      الكفر بالعقيدة الموسوية.
رغم أن (السيد المسيح) لم ينقد العقيدة الموسوية، بل كان الكهنة هم من استخدموا قشورها وحوروها لمصالحهم المالية.
2.      الخيانة وتدبير المؤامرات ضد أمن الدولة الرومانية.
3.      تحريض الناس على الإمتناع عن دفع الجزية.
4.      التمرد على السلطات.
5.      إفساد الأمة.

وبعد المحاكمة الملفقة تهمها الظالمة أحكامها، تم الحكم بصلب (يسوع) الناصري حتى الموت. ولأن الله لا يقبل بالظلم أن يحل على عباده فقد رفع نبيه إليه وألقى شبهه على (يهوذا) الخائن الذي أشترى ثمن عذابه وصلبه في الدنيا وخزيه في الآخرة بثلاثون قطعة من الفضة.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لوحة العشاء الأخير: رسمها (ليوناردو دافنشي) سنة 1498، على جدران كنيسة (سانتا ماريا) في: فلورانسا، إيطاليا.

21 مايو 2009

قراءة في رواية عزازيل ... العبقرية

«عزازيل» تلك الرواية التي هي في الأصل (ترجمة أمينة لمجموعة اللفائف (الرقائق) التي اكتُشفت قبل عشر سنوات بالخرائب الأثرية الواقعة إلى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب، والتي أشرف على اكتشافها الأبُ الجليلُ (وليم كازارى)، والمكتوبة باللغة السُريانية القديمة (الآرامية) أو (الأسطرنجيلية) لأن الأناجيل القديمة كانت تكتب بها.

كتبها راهب مصري الأصل اسمه «هيبا» في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، يحكي فيها سيرته العجيبة ويؤرخ عن غير قصد وقائع حياته القلقة وتقلبات زمانه المضطرب.

ترجمها «يوسف زيدان» من لغتها الأصلية إلى اللغة العربية وأعدها في كتاب روائي أسماه «عزازيل»، أَعَدَ الكتاب في ثلاثين فصلاً هي عدد الرقوق المعثور عليها، كما أنه بدأ الكتاب بفصل: مقدمة المترجم، وختمه ببعض الصور المرتبطة بأحداث الرواية.

عمل «زيدان» في الرواية اقتصر على:
1.      ترجمة الرقوق من لغتها الأصلية إلى اللغة العربة.
2.      أعطى الرقوق عناوين من عنده.
3.      استعمل الأسماء المعاصرة للمدن المذكورة في الرقوق إلا في بعض الأوضاع حسب ما رآه مناسبًا.
4.      وضع الشهور الميلادية التي تقابل الشهور القبطية التي ذكرها مؤلف النص في رقوقه.
5.      ألحق الترجمة ببعض الحواشي، التي كانت موجودة في الأصل على أطراف الرقوق.
كتب هوامش الرواية بلغة عربية راهب لم يصرح باسمه في حدود القرن الخامس الهجري. يقول «زيدان» في ذلك (وقد أوردتُ في هوامش ترجمتي بعضًا من حواشيه وتعليقاته الخطيرة ولم أورد بعضها الآخر لخطورته البالغة، وكان آخر ما كتب الراهب المجهول على ظهر الرِّق الأخير: سوف أعيد دفن هذا الكنز فإن أوان ظهوره لم يأن بعد.

لكني تساءلت كثيرًا عن سبب ذلك الاحتفاء وتلك الجوائر التي أصابتها «عزازيل» وحصدها «زيدان» ولم يكن شأنه في الرواية أكثر من شأن أى مترجم.

لكن سرعان ما تكتشفت الحقيقة واكتشفت العبقرية، التي استطاع «زيدان» إقناع الجميع عندما يشرعون في قراءة الرواية لأول مرَّة بأنها نَصٌ تاريخي قد ترجمه إلى العربية عن كاتبه الأصلي «هيبا». إلا أن «زيدان» في الحقيقة هو الكاتب الأصلي، وأن «عزازيل» كلها من وحيُ خياله وأن «هيبا» ذلك الراهب لم يكن أكثر من بطلاً متخيلاً للروايته التي قدمها بمنتهى البراعة والحبكة الأدبية، ودعمها بالحقائق التاريخية، وتحدث فيها عن اللاهوت المسيحي بإسلوب روائي رائع.

إذن يستحق «زيدان» ما جناه من احتفاء وتكريم وأكثر، إلا أن الأديب السويدي (بار لاجركفيست) بروايته (باراباس) كان له السبق في الحصول على أرفع الجوائز الأدبية عن نفس الفكرة وهي محاولة إقناع القارئ بأن أبطال أو أحداث العمل حقيقية.

نهايةً لا يسعني إلا أن أسجل أن «عزازيل» من أعظم الأعمال الروائية التي قُدمت في الفترة الأخيرة، كما أنها تستحق أن توضع مع (الأناجيل المحرمة والكتب الممنوعة) كما وضعها «هيبا» الراهب من قبلُ.