23 ديسمبر 2009

قراءة في رواية يوتوبيا ... الرائعة


وفي إحدى ليالي شتاء 2008، جاءني (د. أحمد خالد توفيق) في منامي يبكي إليَّ ما فعلوه بـ(يوتوبيا)، ويهديني نسخة منها، ويوصيني بقراءتها لأنه متشوق لسماع رأيي فيها، هكذا الحلم كان !...

والحق أقول لكم: كانت علاقتي بكتابات (د. أحمد) قد انتهت منذ زمن، زمن (المؤسسة العربية) وروايات الجيب التي أصبحت أرى فيها المط الممل والاستخفاف بعقلي كـ ـيافع، ربما كنتُ أحبها أيام الطفولة والطفولة الثانية ...

ذهبتُ إلى الصديق (أحمد الأبيض) لأشتري بعض الكتب، فاشتريت، وطلبت بعض الكتب الغير موجودة على رفوفه، فأمليته عناوينها، وقبل الوداع قال ليَّ:
-       أنت ليه مش عايز تاخد (يوتوبيا) ؟

كنتُ قد مللت عرضة المتكرر في أن آخذ (يوتوبيا) ...
تذكرت الحلم ...
أخذت (يوتوبيا) ...
قرأت الصفحات الأولى من (يوتوبيا) ...
ركنت (يوتوبيا) على الرف ...

* * *

أصابني الملل كثيرًا في هذا العام 2009. وفي إحدى نوبات الملل، فتحت (Google) لأبحث عن (سر الملل) فخرج ليَّ ضمن النتائج وعلى مدونة لمجهول موضوعًا مطولاً يسفه من (يوتويا)، (يوتوبيا) المملة، (يوتوبيا) التي تسيئ لمصر والمصريين، (يوتوبيا) التي تحرض على الإلحاد والفجور ...

تذكرت (يوتوبيا)، قرأت (يوتوبيا)، ندمتُ على تخلفي عن قراءتها كل تلك الفترة. قرأتها ثانية، قرأتها ثالثة، أدمنها ...

* * *

تقرأ (يوتوبيا) فيصيبك الزهول، وتتسع حدقات عينيك، وربما لا تستطيع أن تتحكم في أشداق فاهك. يختلط عليك الواقع بالخيال، فلا تعرف أين أنت، وتجهل مهمة حياتك ...

تجد نفسك مع لغة رهيبة يستخدمها (أحمد خالد توفيق) ليقول لك، لقد انتهى زمن روايات الجيب وإليك الخيال الواقعي –هذا النوع أحبه–

* * *

علاء وجرمينال ...
تتعاطف مع (اليوتوباويين) وتلعن جنونهم وتخنقك أفعالهم.

جابر وصفية ...
تتعاطف مع (الأغيار) وتلعن جبنهم ويخنقك هوانهم.

* * *

(يوتوبيا) هي الزل والمهانة ...
(يوتوبيا) هي الثورة التي لم تحدث، ولابد أن تحدث ...

26 مايو 2009

العشاء الأخير

نزلت المائدة، وكان التلاميذ يعلمون أنه آخر عشاء لهم بصحبة مُخَلِّصَهُمُ (يسوع المسيح) نبي (الناصرة) الذي أراد أن يُخَلِّصَهُمُ من جشع يهود، ومن الظلام الذي خيَّم على القلوب والعقول جراء الوثنية.

جلس (السيد المسيح) عند رأس المائدة، بينما كان التلاميذ الإثنا عشر يتنافسون على مقاعد الشرف القريبة منه، فقام من مَقْعَدَهُ وجاء بحوض به ماء وغسل أرجل التلاميذ وقال:
-         لقد حاولتم التنافس على مقعد الشرف، والأن أضرب لكم المثل الذي يجب أن تحتذوه: تذكروا أن الخادم ليس أعظم من سيده.

فهم التلاميذ قصد معلمهم وراحوا يتناولون العشاء فى صمت، فقطع السيد المسيح صمتهم وقال:
-         إن أحدكم سوف يسلِّمني.

وقعت الكلمات على التلاميذ كوابل، فزادت من صمتهم لحظات يتناظرون فيها إلى بعضهم، ثم تهامس كل منهم في رجفةٍ:
-         هل هو أنا يا مُعَلِّمُ ؟

فقال السيد المسيح:
-         إن الذي يضع يده في الصفحة معي هو الذي سيسلمنى، ولقد كان خيرًا للذى يسلمنى أن لو كان لم يولد.

أكلوا فى صمت، ولم ينتبه أحدٌ إلى أن (يهوذا الأسخريوطي) كان هو الذي وضع يده مع االسَّيد في الصفحة.

* * *

كان الملأ من يهود قد اجتمعوا وعقدوا مجلس (السنهدرين؛ يعني : المجلس التشريعي الأعلى لليهود) الذي دعا إليه الحاخام الأكبر (قيافا) ليروا كيف يستطيعون ايقاف (يسوع) - الذي يُدْعَىَ المسيح - عن الوعظ وكيف يمنعوا عدد أتباعه من الأزدياد. فقد اغتاظوا من جرأته لما جاء الهيكل وطرد منه التجار والصيارفة من قبل، وما ميَّز غيظهم تلك المرَّة؛ عندما جاء إلى أورشليم ولم يكن وحده، كان حوله أتباع كثيرون ينشدون ويرتلون في الشوارع وقد انتابتهم نوبة قوية من الغضب الشديد فراحو يقلبون مناضد الصيارفة والتجار ويبعثرون نقودهم على الأرض ويخرجونهم من فناء الهيكل بضرب العصى.

خاف الملأ من أفعال أتباع المسيح، وأن تدفعهم عواطفهم الثائرة ونزعتهم الوطنية إلى الثورة على السلطة الرومانية، فتكون العاقبة هي القضاء على ما يتمتع به يهود وزعمائهم من حُكْمٌ ذاتي وحرية في جمع المال بإسم الدين. فوافق المجلس بأغلبيته على رأى (قيافا) الذي قال:
-         خير لنا أن يموت إنسان واحد من الشعب ولا تهلك كل أمة يهود.

* * *

انتهى التلاميذ من العشاء، كما انتهى المجلس من قراره. وها هو (السيد المسيح) بصحبة احدا عشر تلميذًا، خرجوا من المدينة إلى حديقة (جشماني) التي اعتاد (السيد المسيح) الخروج إليها للصلاة والتعبد.

* * *

وبينما رؤساء الكهنة يتشاورون فى الطريقة التي بها يقبضون على (السيد المسيح) دون إثارة للشغب، إذ دخل عليهم (يهوذا) يساومهم:
-         ماذا تعطونني وأنا أسلمه إليكم ؟

جلست الخيانة على مائدة الكفر وبدأت المساومات.

* * *

شق السكون في الحديقة بعدما انتصف الليل وصول (يهوذا) يتقدم جماعة من الضباط والجنود حاملين مشاعلهم وعصيهم، فتقدم (السيد المسيح) إليهم يسألهم:
-         عمن تبحثون ؟

قالوا:
-         نبحث عمن يُدْعَىَ (يسوع) الناصري.

فقال على الفور :
-         أنا هو.

لم يكن (السيد المسيح) يكشف عن نفسه إلا وقد هرب التلاميذ وتخلوا عن مُعَلِمَهُمُ. ولكن أين (يسوع) ؟ أهرب مع تلاميذه ؟

* * *

دخل (يهوذا) بعنف على التلاميذ في البيت الذي كانوا قد اجتمعوا فيه بعد الهرب وأخذ يفتش ويقول :
-         أين اَلْمُعَلِمُ ؟

قالوا له:
-         أنت اَلْمُعَلِمُ، أنسيتنا أم أنك تُنْكِرُنَاَ ؟

* * *

ألقى الضباط القبض على (يهوذا) في رداء (السيد المسيح) وقيدوه وقادوه إلى بيت كبير كهنة يهود، وبعد ليلة طويلة من الإتهامات والإهانات جيئ به إلى قاعة المحاكمة أمام (بيلاطس اَلْبُنْطِيِ) حاكم أورشليم الروماني، وحوكم محاكمة لم يشهدها التاريخ من قبل، لكن، ربما تكررت كثيرًا بعدها.

وجد (يهوذا) فى رداء (السيد المسيح) نفسه متهمًا بالأتي :
1.      الكفر بالعقيدة الموسوية.
رغم أن (السيد المسيح) لم ينقد العقيدة الموسوية، بل كان الكهنة هم من استخدموا قشورها وحوروها لمصالحهم المالية.
2.      الخيانة وتدبير المؤامرات ضد أمن الدولة الرومانية.
3.      تحريض الناس على الإمتناع عن دفع الجزية.
4.      التمرد على السلطات.
5.      إفساد الأمة.

وبعد المحاكمة الملفقة تهمها الظالمة أحكامها، تم الحكم بصلب (يسوع) الناصري حتى الموت. ولأن الله لا يقبل بالظلم أن يحل على عباده فقد رفع نبيه إليه وألقى شبهه على (يهوذا) الخائن الذي أشترى ثمن عذابه وصلبه في الدنيا وخزيه في الآخرة بثلاثون قطعة من الفضة.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لوحة العشاء الأخير: رسمها (ليوناردو دافنشي) سنة 1498، على جدران كنيسة (سانتا ماريا) في: فلورانسا، إيطاليا.

21 مايو 2009

قراءة في رواية عزازيل ... العبقرية

«عزازيل» تلك الرواية التي هي في الأصل (ترجمة أمينة لمجموعة اللفائف (الرقائق) التي اكتُشفت قبل عشر سنوات بالخرائب الأثرية الواقعة إلى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب، والتي أشرف على اكتشافها الأبُ الجليلُ (وليم كازارى)، والمكتوبة باللغة السُريانية القديمة (الآرامية) أو (الأسطرنجيلية) لأن الأناجيل القديمة كانت تكتب بها.

كتبها راهب مصري الأصل اسمه «هيبا» في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، يحكي فيها سيرته العجيبة ويؤرخ عن غير قصد وقائع حياته القلقة وتقلبات زمانه المضطرب.

ترجمها «يوسف زيدان» من لغتها الأصلية إلى اللغة العربية وأعدها في كتاب روائي أسماه «عزازيل»، أَعَدَ الكتاب في ثلاثين فصلاً هي عدد الرقوق المعثور عليها، كما أنه بدأ الكتاب بفصل: مقدمة المترجم، وختمه ببعض الصور المرتبطة بأحداث الرواية.

عمل «زيدان» في الرواية اقتصر على:
1.      ترجمة الرقوق من لغتها الأصلية إلى اللغة العربة.
2.      أعطى الرقوق عناوين من عنده.
3.      استعمل الأسماء المعاصرة للمدن المذكورة في الرقوق إلا في بعض الأوضاع حسب ما رآه مناسبًا.
4.      وضع الشهور الميلادية التي تقابل الشهور القبطية التي ذكرها مؤلف النص في رقوقه.
5.      ألحق الترجمة ببعض الحواشي، التي كانت موجودة في الأصل على أطراف الرقوق.
كتب هوامش الرواية بلغة عربية راهب لم يصرح باسمه في حدود القرن الخامس الهجري. يقول «زيدان» في ذلك (وقد أوردتُ في هوامش ترجمتي بعضًا من حواشيه وتعليقاته الخطيرة ولم أورد بعضها الآخر لخطورته البالغة، وكان آخر ما كتب الراهب المجهول على ظهر الرِّق الأخير: سوف أعيد دفن هذا الكنز فإن أوان ظهوره لم يأن بعد.

لكني تساءلت كثيرًا عن سبب ذلك الاحتفاء وتلك الجوائر التي أصابتها «عزازيل» وحصدها «زيدان» ولم يكن شأنه في الرواية أكثر من شأن أى مترجم.

لكن سرعان ما تكتشفت الحقيقة واكتشفت العبقرية، التي استطاع «زيدان» إقناع الجميع عندما يشرعون في قراءة الرواية لأول مرَّة بأنها نَصٌ تاريخي قد ترجمه إلى العربية عن كاتبه الأصلي «هيبا». إلا أن «زيدان» في الحقيقة هو الكاتب الأصلي، وأن «عزازيل» كلها من وحيُ خياله وأن «هيبا» ذلك الراهب لم يكن أكثر من بطلاً متخيلاً للروايته التي قدمها بمنتهى البراعة والحبكة الأدبية، ودعمها بالحقائق التاريخية، وتحدث فيها عن اللاهوت المسيحي بإسلوب روائي رائع.

إذن يستحق «زيدان» ما جناه من احتفاء وتكريم وأكثر، إلا أن الأديب السويدي (بار لاجركفيست) بروايته (باراباس) كان له السبق في الحصول على أرفع الجوائز الأدبية عن نفس الفكرة وهي محاولة إقناع القارئ بأن أبطال أو أحداث العمل حقيقية.

نهايةً لا يسعني إلا أن أسجل أن «عزازيل» من أعظم الأعمال الروائية التي قُدمت في الفترة الأخيرة، كما أنها تستحق أن توضع مع (الأناجيل المحرمة والكتب الممنوعة) كما وضعها «هيبا» الراهب من قبلُ.

09 أبريل 2009

اللحظات الأخيرة في حياة يوحنا


. 1 .
شذَّ حالُ «يوحنَّا» وتغيَّرت أطوارُه هذه الأيامَ، كان كلُّ ما يفكرُ فيه تلك الفترة الحلوة التي مضت، انصبَّ كلُّ شعوره في دُنُوَّ الأجل واقتراب النهاية. أصبح يتذوق طعم الفراق، ويشم رائحة النهاية، ويسمع دبيبَ الموت يدبُّ إلى قلبه، أصبح لا يرى إلا اللون الأسود.
بيدَ أنَّ سبب حاله هذه تقدُّمُ سِنَّهِ، فهو الآن يخطو نحو الستين من عمره، وجد الشبابَ قد فرَّ منه وأنَّ الشيخوخة قد لاحقته، رغم أنَّ من يعرفه جيدًا كان دائمًا يسمعه يقول:
-        إنني لن أفارقَ الشبابَ يومًا، ولن أودَّع أحلامي البتة.
لكن ما زاد الحال سوءًا هو ذلك اليوم الذي استيقظ فيه من آلام الشقيقة، ونظر في المرآة التي تُطِلُ عليه من رُكنِ الدولاب، رأى شعره الأشيب، وتجاعيد وجهه، وخده الهضيم، وبشرته المغضنة، وعظامه البارزة، وأجفانه الوارمة، ثم نظر نظرةً قاسيةً إلى عينيه الحمراوتين اللتين تُطِلُّ منهما النظرات المرتاعة، تذكَّرَ أيامَ شبابه، وسالت الدموع من عينيه. شَعَرَ كأنه كهلٌ في الثمانين يخطو خطوته الأخيرةَ نحوَ النهاية.
. 2 .
لم يكن «يوحنَّا» يُحِبُّ الخروج قبل حلول الظلام، وكان موعد رجوعه عندما تخلو الشوارع من المارة تمامًا، رغم هذا وذاك كان يصحو من نومه قبل أن تطلع الشمس. تقلَّصت ساعاتُ نومه وأصبح لا ينام إلا سُوَيعَاتٍ يحلم فيها بالماضي وأيام الشباب. لكن في ذلك الصباح الشتائي انتصب من على سريره وقال:
-        إنني لا يَجِبُ أن أنامَ، ولا يَجِبُ أن أضيَّع من الوقتِ القادمِ دقيقةً. دقيقةٌ واحدةٌ لا يَجِبُ أن تضيعَ.
وكعادته، بعدما ينتشر الضوءُ الخفيفُ في الأرجاءِ صنعَ كوبَ القهوة، وأخذ الجريدة، وألبوم الصور من على مكتبه، ونزل درجات السُّلم الخشبي لبيته العتيق ... البيت الذي يشبه كوخًا كبيرًا، والمنزوي في عُمق الحديقة المطمورة بالأغصان المتكسَّرة والأوراق الصفراء المتعفَّنة التي تخشخش على الأرض كلما مشى عليها أحد أو حرَّكتها الرياح ... وجلس تحت شجرة الصفصاف الجافَّة، يرشف من كوب القهوة، ويقرأ في الجريدة، ويُحدَّق في البعيد، وترك العنان لأفكاره.
تذكَّر حبيبته، وقال بصوت متهدَّج:
-        أين أنتِ يا ...
لكنه لم يستطِع أن يُكمِل.
قامَ وأخذَ يجوبُ الحديقةَ، وكان كلبه الشيخ أيضًا يتبعه، لكنه دومًا كان ينهر الكلب.
شَعَرَ أنه بحاجة إلى امرأة، لكنه شَعَرَ بأمرٍ غريب. فكَّر في أن يتزوج، لكنه ضحك من نفسه. عاد إلى نفس مكانه تحت الشجرة، نَهَرَ الكلبَ، وأمسك الصور وظلَّ يُقلَّبها، وقال:
-        كم مدنًا زُرْتُ، وكم قبابًا رأيتُ، وبيوتًا، وفنادقَ، وحاناتٍ، ومقاهي.
لكن «يوحنَّا» لم يَرُد.
تذكَّر تلك الأيام الماضية، وتلك الوجوه التي مرَّت به، وسكب ما بقيَ من كوب القهوة على أرض الحديقة. نَهَرَ الكلب، وصعد السلالم الخشبية.
. 3 .
إلى البيانو العتيق ...
حاول «يوحنَّا» أن يعزف تلك المقطوعة التي كان يسمعها من حبيبته دائمًا، لكنه لم يستطع أن يُكملها. أمسك زجاجة البراندي وتجرَّعها كُلها. اقترب من القفص الفضَّيَّ الذي يعيش فيه طائر البلبل الأبيض، وحيدًا، منذ أن أتى به إلى جواره، وضع له الحبوب والماء، وظل واقفًا أمامه منتظرًا أن يشدو، لكنه لم يَشدُ.
ذهبَ إلى خزانته ...
تطلَّع إلى الأوراق القديمة المكتوبة بدم حبيبته، وأمسك زجاجة العطر التي كانت تستخدمها وسكبَ منها على يده ومسحَ وجهه.
ذهبَ إلى الشرفة الخلفية ...
فتح ذراعيه للهواء ... رأى حبيبته عند أول مرَّة رأى فيها عينيها النجلاوتين، وأول مرَّة لمس أصابع يدها البيضاء الناعمة، ورآها عندما كسرت جرَّة الحليب من شدة ارتباكها ... انتعش لَمَّا لفحته نسمات الهواء الباردة، تلك المُحَمَّلَة بعبير الزهور الجافة ورائحة حبيبته وعطرها العتيق.
فكَّر في أن يذهب إلى المقابر ويبث إلى حبيبته شكواه، لكنه لم يفعل.
. 4 .
فكَّر «يوحنَّا» في الخروج رغم أنه لم يكن ذلك موعد خروجه. غادر البيت، وغادر الحديقة دون أن يقفل الباب الحديدي الذي علاه الصدأ. لم يكن يفكَّر في الحرص وقتها.
مضى في الشوارع غير عابئ بالذين يحدَّقون فيه. وصل إلى الشاطئ، ولفحه الهواء البارد. رفع يده إلى ياقته اللزجة، وشعر بالعرق تحت إبطيه. رأى العُشَّاق، وباعة الورد، وباعة الترمس. ووقف عند حافَّة مياه الشاطئ، وقال:
-    لو أنني ألقيت بنفسي في ذلك الماء الساكن، ولو أنني ذهبتُ إلى البلاد التي تكون فيها الشلالات هائجة وعنيفة، ولو أنني ...
حاول أن يتذكَّر أبياتًا من الشَّعر، وحاول أن يترنَّم بذلك المزمور الذي كان يردَّده دائمًا، لكنه لم يستطع.
ذهب إلى المقهى ...
لم يرد التحية على من ألقاها عليه، وجلس على ذلك الكرسي البعيد، وانزوى، واندسَّ، وثنى رقبته، وقال:
-        لو أنني جلستُ على ظهر الكرسيَّ.
تذكَّر الأفيال، وتذكر المقابر، ورأى فُوَّهة البندقية مُصوَّبةً نحوَه.
قال للجرسون:
-        زجاجة براندي وثلاث كؤوس من الويسكي.
قال الجرسون:
-        هنا مقهى.
قال للجرسون:
-        هنا بار.
قال الجرسون:
-        رائحة الخمر تفوح منك يا يوحنَّا.
قال «يوحنَّا»:
-        أنا أحسن عدَّاء، كما أستطيع أن أرمي ستين طلقة في الدقيقة وأنت لا تسمع.
قال الجرسون:
-        لقد فقدت عقلك يا يوحنَّا.
ضحك «يوحنَّا» بصوت مرتفع، وطلب عربة تقف أمام درجات البهو. ترقرقت عيناه بالدموع وهو يدخل العربة، وقال:
-        إلى الهيلتون.
جلس على طاولة كبيرة، وطلب عشاء كاملا لفردين، ترك العشاء، وسأل عن موعد لعب القمار، دفع ثمن العشاء، ونفح الجارسون خمسين جنيهًا، وأعطى الفتاة خمسة وعشرين قرشًا.
ذهب إلى السوق ...
اشترى جرائد اليوم. والجرائد المسائية. ومجلات الأسبوع. وخمسة كتب من الطبعات الفاخرة. وأربع اسطوانات بها موسيقى من اليونان، وأغاني من تركيا، وسيمفونيات موتسارت، وألحان بتهوفن. وصورة مُصارع ثيران أسباني. كما ملأ كيسًا ورقيًّا بالبقالة، وآخر ملأه بالفاكهة.
لم يفكَّر في أنه تجاوز المبلغ المخصص لهذا اليوم. تذكَّر أنه نسيَ أن يطفئ النار على البيض الذي كان يسلقه للإفطار. شعر بالحنق، وشعر بانفطار في قلبه. فكَّر في العودة إلى بيته، وفكَّر في أن يتخلَّص من مُشترياته، تركها في العربة ونزل عندما رأى بيته على مد بصره، مشى حتى وصل إلى الباب الحديدي، ونظر إلى الحديقة الجافة المتعفَّنة، وتذكَّرها أيامَ كانت خضراء مثمرة، شعر بدوار وسقط على الأرض مغشيًا عليه.
. 5 .
وجد «يوحنَّا» نفسه ممددًا على سريره، يحيطه ثلاثةُ رجال وامرأة.
قال له الضابط:
-        كم ضيَّعت في العربة ؟
وقال له الطبيب:
-        كم كأسًا شربت ؟
وقالت الممرضة:
-        ألم يحذرك الطبيب من الشرب ؟
كان الرجل الثالث ثلاثينيًّا متأنقًا، ولم يتكلم.
قال «يوحنَّا»:
-        لم أضع طعامًا لعصفوري اليوم.
خرج الجميع، وقال «يوحنَّا» للغريب:
-        انتظر ... من أنت ؟
-        أنا من نقلك للسرير وطلب لك الطبيب سيدي.
قال «يوحنَّا»:
-    اسمع، أشعر بأن اللحظات القادمة هي اللحظات الأخيرة من حياتي، نعم، فقد مرَّت أمام عيني حياتي كلها، واستطعمتُ حُلوها ومُرَّها، لكن حقًّا أقول لك، إني ما ذُقتُ مُرَّ الحياة إلا بعدما رحلت عني زوجتي واستقبلَتها أمجادُ السماء، كانت حبيبتي التي لم أحب غيرها، وها أنا الآن أُحتَضَرُ ولعلَّي ألحَقُ بها بعد قليل، لكني أخشى الموت وحيدًا كما عشتُ عِقدي الأخير في الحياة وحيدًا، هل رافقتني تلك اللحظات بُنَيَّ ؟
-        بالطبع سيدي.
أكمَلَ «يوحنَّا» كلامَه، قائلا:
-    في تلك الفترة التي عشتُ فيها هنا، وحيدًا، في ذلك البيت البعيد عن المدينة، لم يرافقني أحد، إلا الكلب العجوز ذاك القابع في كُشكه الخشبِي أمام الباب الحديدي وعصفوري هذا الموجود في قفصه الفضيَّ المُعلق فوق البيانو الموجود بجوار الشرفة الخلفية، كانوا أُنسي أيام وحدتي، لم يتركوني يومًا وها أنا الآن سأرحل وأتركهم، لكني لا أريد أن أجعلهم يشعروا بالوحدة يومًا بعدي، لأن الوحدة هي الموت، نعم هي الموت. أطلب منك بُنَيَّ أن تفتح لهم الأبواب وتترك كلاًّ منهم يذهب ليبحث عن أنيس له.
ذهب الغريب يمتثل لأمر «يوحنَّا»، وذهب «يوحنَّا» يغتسل ويلبس الثياب البيضاء، الباردة، النظيفة، التي سوف يذهب بها إلى معبوده.
عاد «يوحنَّا» إلى السرير، وعاد الغريب إلى «يوحنَّا».
-    سيدي، ذهب الطائر واختفى عن بصري لَمَّا فتحتُ له باب القفص، لكني حاولت كثيرًا أن أخرج الكلب من الباب الحديدي فأبى الخروج، وها هو يقف عند باب الغرفة من الخارج وكأنه يستأذنك الدخول. سيدي، هذا الكلب قد شاخ وتبدو عليه علامات الاحتضار، ويبدو أنه يتمنى أن يبقى إلى جوارك، هل يمكنني أن أفتح له باب الغرفة وأسمح له بالدخول ؟
قال «يوحنَّا» بصوتٍ مبحوحٍ:
-        افتح.
دخل الكلب وجلس تحت قدمَيْ سيده، يرتجف، ويهز ذيله في صمت.
  قال «يوحنَّا»:
-    عجيب حال هذه الدنيا، ذاك الطائر من نوع نادر، اشتريته بجزء من ثروتي، دللته، وصنعت له قفصًا من الفضة، وها هو عند أول فرصة سنحت له بالبعد عني ابتَعَدَ. أما هذا الكلب فكان ضالا، مُشرَّدًا، أول مرة قابلته فيها عاداني، لكني استأنسته، وصنعتُ له كُشكًا خشبيًّا، ولم أفعل إلا أن كنتُ أضع له الطعام من وقت لآخر، ورغم أني كنت أنهره دائمًا إلا أنه كان يحتملني، وعندما شعر بنهاية حياتي فَضَّلَ أن تكون نهايته أيضًا، وكأنه أبى الحياة إلا في جواري، بيدَ أن هناك مفاهيم كثيرة في حياتي كان لا بد من تغييرها، لكن لا مجال للتغيير الآن فإن أوان النهاية قد آن.
تنهَّد «يوحنَّا»، وتنفَّس عميقًا، وقال:
-    لقد بقيت طيلة حياتي أنفر من القساوسة والكهنة، وليس بوسعي الآن استدعاء أحدٍ منهم للاعتراف أمامه، بيد أني أبغي تطهير ضميري قبل أن أفارق الحياة.
سأل الغريبُ «يوحنَّا»:
-        وما العمل إذًا ؟
قال «يوحنَّا»:
-        لقد طلبتُ منك مرافقتي في تلك اللحظات الأخيرة من حياتي، ألا استمعت لي في تلك الكلمات الأخيرة أيضًا ؟
قال الغريب بصوت هادئ:
-    حسنًا، رغم أني لستُ قسًّا ولا كاهنًا، إلا أن ذلك لا يعني شيئًا، تكلَّم سيدي، ربما أستطيع أن أيسَّر اللحظات الأخيرة من حياتك وأن أخفَّف من أعباء روحك.
. 6 .
قال «يوحنَّا»:
-    لقد بقيتُ طيلةَ حياتي محافظًا على صفحات كتابي بيضاء، ولم أدنسها بالخطيئة يومًا، لكن لَمَّا اشتد على زوجتي مرضها الأخير، ووصف لها الطبيب علاجات وأدوية مختلفة باهظة الثمن، في الوقت الذي كنت قد فقدتُ فيه ثروتي كلها، أو لعلي بددتها، في هذه الفترة كنتُ لا أعرف كيف أوفَّر لها قُوتَ اليوم التالي. أقدمتُ إلى قصر الأميرة ابنة الملك الراحل، الذي كنت أعمل مديرًا لأعماله فترة من عمري، كنت أعرف كل خبايا القصر، فقد عشتُ فيه أيامًا وافتتنتُ بخزائنه يومًا. قَدِمتُ إلى القصر وسرقتُ منه قطعة ذهبية من أحد أطقم الأميرة، بعتها، واشتريتُ بثمنها الدواء والغذاء اللازمين لزوجتي.
قال الغريب:
-        وهل طالَ السوءُ أحدَ خدمِ الأميرة بسبب فِعلتك ؟
أجاب «يوحنَّا» وقد تفجَّرت الدموعُ من عينيه:
-        كلا، أقسمُ لك، ولو أنني أدركتُ يومها أن الذهبَ لن يعالج زوجتي لما تجاسرتُ على فعلتي تلك.
تراخت أجفان «يوحنَّا» كما تراخي كل جسده ولم يستطع فتحَ عينيه. وضع الغريب راحة يده على عينَي «يوحنَّا» المُطبَقَتَين المشتعلتين من البكاء، فأحسَّ «يوحنَّا» براحةٍ تسري في كل أنحاء جسدِه، قال الغريب بصوت هادئ:
-    هكذا إذًا سيدي، فأنت بريءٌ من الخطيئة وغيرُ مذنب بحق الناس، وما قمتَ به ليس بخطيئة ولا يُعدُّ سرقةً، بل يجوز القول بأنك اجترحتَ مأثرة حب نادرة.
غمغم «يوحنَّا»:
-        آمين.
وردَّد الغريب:
-        آمين.
ثم قال الغريب بصوت أكثر هدوءًا:
-        والآن أفصح لي عن رغبتك الأخيرة.
ابتسم «يوحنَّا» وردَّد بصوت مرتفع:
-    أرغبُ في رؤية زوجتي ثانيةً كما رأيتُها أول مرَّة في ريعان شبابها، وأن أرى الشمس، وهذه الحديقة العتيقة وهي تزهر في الربيع.
ثم ابتسم في أسى وقال:
-        بيدَ أن كلَّ هذا مستحيل، لا تؤاخذني، فالمرض ومعالجة الاحتضار على ما يبدو أفقداني صوابي.
قال الغريب وهو ينهضُ من مقعده:
-        حسنًا، حسنًا.
واقترب من البيانو ومرَّر أصابعه على مفاتيحه المصنوعة من أخشاب الأبانوس فتصاعدت عدة نغمات متهدَّجة، عجوزة، مختلفة. وفجأة تدفَّقت موسيقى متسارعة غمرت الكوخ، وكأنَّ مئات الكُرات البلوريَّة تساقطت على أرض زجاجية. كاد «يوحنَّا» أن يهمَّ بالكلام، لكن الغريب بادره قائلا:
-        أصغِ ... أصغِ وانتظر.
وطفق في العزف على البيانو.
  صدح البيانو لأول مرَّة منذ سنوات بكل نغماته التي عمَّت كل شيء في الكوخ والحديقة والسماء التي علت المكان، وانسلَّ الكلب العجوز وأقعَى جانبًا تحت البيانو وراح يهز ذيله بهدوء يشوبه الحذر، واكتفى بتحريك أذنيه. أما «يوحنَّا» فقد قام من سريره قليلا وما زالت عيناه مُطبَقَتَين، وقال:
-    لقد بدأت أرى كل شيء بوضوح الآن، هو ذا اليوم الذي التقيت فيه بزوجتي أول مرَّة، كان ذلك إبان الشتاء في أحد الجبال القريبة من هنا، لما كانت السماء صافية كزجاج أزرق، والشمس ساطعة، والثلج الخفيف يتساقط كحبات الندى على أشجار الحديقة وأزهارها البيضاء والحمراء وعلى النجيل الأخضر. يومها قطفت لي تفاحة وعنقود عنب، وراحت تضحك. إنني أسمع ضحكاتِها الآن.
وصل «يوحنَّا» إلى النافذة وفتحها كأنما يقدَّم ضوء الشمس الدافئ بأشعَّته الذهبية إلى الغرفة. فأرسل الغريبُ نظرَه إلى النافذة المظلمة وتساءل وهو يستمر في العزف مبتسمًا:
-    أحقًّا أنك ترى كل هذا ! كيف تحولت ظلمةُ الليل إلى سماء صافية وسماوية ! وكيف تحوَّل البردُ القارسُ في الغرفة إلى مكان انسكب فيه الضوء الدافئ والأشعَّة الذهبية ! وكيف تفتَّحت على أغصان أشجاركم الجافة زهور بيضاء وحمراء، وكيف أثمرت الأشجار الميتة وأنجبت التفاح والعنب !
صاحَ «يوحنَّا»:
-    إنني أرى كل ذلك وأكثر ... ما زالت السماء تزداد زُرقةً، والمكان يزداد دفئًا، وأسراب الطيور تُهاجر فوق مديتنا الجميلة، إنني أرى كلَّ شيء جميلاً مُبهجًا.
دامت تلك الاحتفالية التي لم يكن باعثها ذلك البيانو وحده، بل مئات الأصوات المبتهجة التي ظلَّت تُنشِدُ معًا. وفجأة أفلتت دوَّاسة البيانو العجوز وأصدرت صريرًا ناعمًا عاليًا، فسقط «يوحنَّا» على الأرض مُستنشقًا الهواء بنهم، وراح يعبثُ بشكل عشوائي متشبثًا باللحاف لكي يصعد إلى السرير، فهرع إليه الغريب وأصعده على السرير، فسأله يوحنَّا بصوت متحشرج:
-    مَن أنت ؟ مَن ذلك الشخص الذي أراني كلَّ شيء بوضوح كما تمنَّيتُ أن أرى ؟ مَن ذلك الشخص الذي جعل أشجار التفاح تُزهِرُ وتُثمِرُ في غُضون ليلة واحدة؟
ابتسم الغريب، وقال:
-        إنسان.
ابتسم «يوحنَّا» وفارقَ الحياةَ.
استوحشَ الكوخ وخلا من كل مظاهر الحياة مرَّة أخرى، إلا من ذلك الضَّوء الخفيف -الحقيقي تلك المرَّة- ضوء القمر الفضيّ الذي أطلَّ على الحديقة والكوخ كما أطلَّ على وجه «يوحنَّا».
* * *


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعض الجُمل في هذه القصة مقتبسة من قصة للكاتب الفنان: عبده جبير.
رسوم: كريم آدم
نشرت في: المجموعة القصصية، ملابس داخلية. مارس 2010
نشرت في: المجموعة القصصية، رجل العواطف يجلس على المقهى ويدخن الشيشة. ديسمبر 2010