24 أبريل 2010

المشهد



كنتَ تحبُّ المطرَ، وتُحِبُّ الخريفَ. وتُحِبُّ الجلوسَ في الحديقة نهارًا على الكرسي الخزفي وفي المقهى ليلاً على الكرسي الخشبي، وتعودُ إلى بيتك وحذاؤك مُبتلٌّ من ماء المطر المتكوَّم على أرصفة الشوارع المظلمة إلا من ضوء القمر والضوء الخفيف المنبعث من بعض النوافذ.

وكنتَ تحبُّ أن تشعلَ الحطبَ في المدفئة، وتذهب إلى النافذة الجافة، ويظل وجهك الشاحب المزروع بالشَّعر الأسود ملتصقًا بزجاجها أطول فترة ممكنة، حتى يتعكَّر صفوها، فتتذكَّر إلَهَك، وتتذكَّر حبيبتك الصغيرة، وتراها وهي تَمُرُّ أمامَكَ، تسير متمهلة على الرصيف المقابل، وتضم حقيبتها مُنَكَّسَةً رأسها كأنها تبكي على طفلتها الميتة بين ذراعيها، أو كأنها تقول للعالم أجمع:
-        انظروا كم أنا حزينة، كم أنا حزينة انظروا !

وتذهب أنت لتتابع المشهدَ ...
كان المشهدُ مهيبًا عندما سقط البطل على الأرض بعد أن علا زئيرُه باسم حبيبته، وكنتَ أنت تتابعُ المشهدَ بنفس اللهفة التي تابعته بها في المرَّة الأولى.

وكنتَ تعودُ إلى النافذة الجافة، ويظلُّ وجهك الشاحب المزروع بالشَّعر الأسود والأبيض ملتصقًا بزجاجها أطول فترة ممكنة، حتى يتعكَّر صفوها، فتتذكَّر إلَهَكَ، وتتذكَّر حبيبتك الصغيرة، وتراها وهي تَعْـبُرُ الطريق، وحدها، أو مع غيرك ربما، فتُنادي عليها من الدور الرابع، وتصرخ:
-        عودي يا حبيبتي الصغيرة، يا حبيبتي الصغيرة عودي.

حتى تتأمَّلَ آخر ذرَّة منها في الزحام، لكنك لا تُصَدَّقُ أنها ذهبت إلى الأبد، لا لشيء إلا لأنك كنتَ تتمنَّى أن تضع لها إخلاصك في حقيبتها، لكنك أدركت -بعدَ فوات الأوان- أن صراخك من الدور الرابع ضَرْبٌ من الجنون !

فكُنتَ تعود إلى المدفئة، وتكتب رسالة إلى إلَهِكَ، ورسالة إلى حبيبتك الصغيرة، وتضع بدل الطابع ورقة من روحك المشروخة، وتلصق الرسالة بماء الندم.

ويأتي الصباح، وتشرق الشمس قليلا قليلا، فتشعر بالدفء قليلا قليلا، وتهوي على الكرسي بجوار المدفئة، وتنام.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة: كريم آدم
نشرت في: المجموعة القصصية، رجل العواطف يجلس على المقهى ويدخن الشيشة. ديسمبر 2010